window.google_render_ad();
الأمر شبه الثابت أن وظائف أي علم من العلوم الإنسانية وحتى الطبيعية
متداخلة ومتفاعلة جدليا تؤثر في بعضها ويخصب بعضها البعض. ومع أننا نسلم بهذا التفاعل فإننا سنميز لأغراض التحليل والتوضيح بين وظيفتين أساسيتين لعلم الاجتماع تتفرع عنهما وظائف أخريات:
الأولى: وظيفة علمية تعني بتطوير العلم نفسه والنقد الذاتي ﻟﻤﺨتلف الجهود التي بذلت على الصعيدين النظري والمنهجي، بغية الوصول بالعلم إلى درجة أكبر من الكفاءة والدقة في الوصول إلى القوانين الاجتماعية التي لا يصل العالم إليها إلا بعد رحلة طويلة تسير في خطوات المنهج العلمي بدءا من الملاحظة وحتى صوغ القوانين وما بينهما من خطوات تحليلية وتفسيرية وتعميمية على أن يفضي توظيف هذه القوانين إلى أوضاع أفضل تمكن من التنبؤ بمسار اﻟﻤﺠتمع الإنساني وبنائه. وهذا اﻟﻤﺨرج السوسيولوجي لا يمكن التوصل إليه بدقة إلا بإطار نظري، يتسق مع طابع العلم من جانب ويكون أكثر قدرة على تصور إبعاد الواقع ومكوناته في تناقضاتها وحركتها وتغيرها.
الثانية: وظيفة مجتمعية وهي تعني جميع الأدوار التي يقوم بها العلم ﻟﻤﺠتمع معين متدرجا في العطاء حتى الوصول إلى اﻟﻤﺠتمع الإنساني ككل. وهذه الوظيفة يمكن أن تندرج تحتها وظائف فرعية كثيرة تبدأ بفهم الواقع وتفسيره وتناول مشكلاته والتخطيط لتناولها وعلاجها سواء كانت هذه المشكلات فئوية أو قطاعية أو مجتمعية شاملة تشمل اﻟﻤﺠتمع على وجه العموم.
ومع أن الوظيفة الأولى تكاد تمثل مجال اتفاق كبير بين المشتغلين بالعلم
في كل اﻟﻤﺠتمعات وعبر كل الأجيال العلمية، فإن الوظيفة الثانية هي الأكثر
حساسية حيث فجرت الكثير من القضايا والمواقف، بل ودعت إلى إعادة
النظر في العالم منذ نشأته وحتى الآن.
وأول النقاط التي يمكن بها بدء المناقشة هي أن العلم أيا كان موضوعه بمثابة نشاط إنساني مستهدف ومقصود، وهذا يعني أول ما يعني ارتباط العلم بالسياق اﻟﻤﺠتمعي وتأثره بالمؤثرات التي تحدد النشاط الإنساني زمانيا ومكانيا، الأمر الذي جعل هذه الوظيفة الاجتماعية متباينة بين فترة وأخرى وبين مجتمع وآخر بل وبتباين الموقع الطبقي الاجتماعي الذي ينتمي إليه الباحث وينظر من خلاله إلى الواقع الاجتماعي. وهنا يمكن التمييز بين موقف أساسي الأول في الوقوف إيجابيا مع النظام الاجتماعي القائم وبالتالي صناعة أفكار نظرية ومناهج وطرائق للوصول إلى بيانات علمية تدعم هذا النظام وتبرهن على سلامته. وهذا الموقف يكاد يكون موقف كل الرواد المؤسسين للعلم عدا واحدا فقط هو «كارل ماركس « فقد قال أوجيست كونت: إنك تدرس لكي تضبط في حين أن» دوركايم « أشار إلى أن علم الاجتماع يجب أن تكون له فوائد عملية دون تحديد
وجهتها وان كان يفهم ضمنا من كتاباته أن هذه الفوائد تتمثل في علاج
المشكلات الاجتماعية التي تحافظ في النهاية على النظام الاجتماعي القائم، وتوازنه واستمراره. وعلى النقيض من موقف هذين المفكرين كان "ماركس" يقول-خاصة في رده على "فويرباخ "-: لقد درس الناس العالم على أنحاء عدة غير أن المهم هو تغييره و يفهم بوضوح-من إطاره النظري-أن وجهة التغيير التي يقصدها تعني التوجه نحو الإنسان وجعل غده أكثر رحابة وعدالة وإرادته أكثر تحررا خاصة الإنسان المضطهد والمستغل، سواء كان عاملا أو فلاحا أو ما شابه هذا. ولكن كيف يمكن لعلم الاجتماع
أن يحقق وظائفه الإنسانية؟ إن الإجابة على هذا السؤال تعني أولا دراسة
الواقع وتشخيصه وتفسيره. وتعني ثانيا تقديم بدائل لتصورات التغيير وتعني ثالثا العمل على إنضاج وعي الجماهير المشاركة في اﻟﻤﺠتمع من خلال وضعها على طريق التفكير العلمي وتبصيرها بما هو حادث حولها سلباً وإيجاباً. وهذا يبرز بجلاء أهمية الدور النقدي لعلم الاجتماع ولا يقصد بالنقد هنا أن يكون وحيد الجانب في اتجاه النظام الحاكم وإنما
يكون متفاعلا متوجها إلى القمة والقاع وإلى الحاكم والمحكوم. أو-باختصار- إلى المصلحة العامة. وكلمة العامة تعني الأغلبية العريضة المكونة للمجتمع. وتعني رابعا ضرورة المشاركة في صناعة القرارات وفي التخطيط اﻟﻤﺠتمعي. وبدون الدور الأخير يصبح الدوران الأولان موقوف. ويصبح الدور الثالث هو الممكن والمتاح إذا تجاوز الباحث آنيته وأنانيته وأضحى ملتزمًا أمام اﻟﻤﺠتمع والإنسان لأن علم الاجتماع كما سبقت الإشارة هو علم دراسة الإنسان واﻟﻤﺠتمع. إن جميع هذه الوظائف تعد التحدي الأساسي أمام تجاوز علم الاجتماع لأزمته الراهنة والمقبلة. فمع مطلع الستينات وفي السبعينات وحتى اليوم تحفل الكتابات السوسيولوجية المعاصرة بمحاولات عدة تعترف بوجود
أزمة في علم الاجتماع وتجتهد في تشخيصها وتحاول أن ترسم طرق
الخلاص منها. وهي كلها محاولات تؤكد أن علم الاجتماع اليوم-خاصة علم
الاجتماع الغربي-غير قادر على أداء وظائفه العلمية والاجتماعية. وفي هذا يذهب نورمان بيرنبا ( M.Birnbum ) إلاّ أن علم الاجتماع الأمريكي المعاصر-بالرغم من أنه حقق إنجازات في مجال استخدام الحاسبات الآلية، والنماذج الرياضية، وطور بعض الأساليب المنهجية والفنية- فإنه من الناحية الاجتماعية لم يسهم في:
1- الإقلال من اختلال المساواة في توزيع الثروة المادية، وفي حيازة القوة وقد أتى هذا نتيجة لسطوة الوظيفة كاتجاه نظري، ولعمل الباحث لدى المؤسسات والشركات الرأسمالية حيث وجهت بحوثهم نحو زيادة الإنتاج وزيادة أرباح هذه الشركات ولو ضد مصلحة المنتجين الحقيقيين.
2- إن الباحثين انشغلوا ولا يزالون بالنظام الرأسمالي إما بتبريره، وإما بتناول مشكلاته للحفاظ عليه والعمل على استمراره.
3- إن العلاقة بين الباحث في علم الاجتماع والجماهير لا تزال أسئلتها بلا إجابات مما أضعف الدور اﻟﻤﺠتمعي الشعبي للعلم.
والذي تجدر الإشارة إليه هاهنا هو أن الموقف التبريري المحافظ لعلم
الاجتماع الأمريكي، لم يقف عند حدود مجتمعه بل تعداه إلى دراسات وبحوث هدفت إلى مقاومة الثورة في العالم الثالث وضرب الحركات التحررية، نتيجة لما وفرته هذه الدراسات وتلك البحوث من بيانات لوكالة الاستخبارات المركزية. ويحضرني في هذا الصدد ذلك المشروع الذي وسم شروع كاميلوت Camelot والذي شكلت لجنته الأساسية سنة, 1964 من مجموعة من العسكريين والباحثين في علم الاجتماع من أمثال لويس كوزر L.coser وجيس برنار J.Bernard والذي جمع معطيات حول كثير من بلدان
أمريكا اللاتينية استخدمت في التخطيط لضرب بعض الحركات التحررية في كوبا وشيلي. وقد آثار هذا المشروع ردود فعل واسعة وتصدى لتعرية أهدافه الكامنة بعض الباحثين في علم الاجتماع، الذين يأتي في مقدمتهم الباحث النرويجي جون جالتنج J.Galtung ومارشال سالينس M.Salinsوغيرهما من الباحث الذين اثبتوا ارتباط البحث السوسيولوجي بأدوات السياسة والقوة العسكرية الأمريكية وإذا أراد المرء أن يوضح استخدام بحوث علم الاجتماع كوسيلة في الصراع العالمي وتدعيم تبعية العالم الثالث للنظام الرأسمالي فكرا وتوجها فلن تعوزه المصادر والكتابات. فقد أوضح جورج بيتي G.Pettee في كتابه "عملية الثورة"-أن دعاة الثورة لن يجدوا غير قليل من الآذان الصاغية في الغرب المتقدم لأن اهتمامنا الآن مقصور على دراسة الإجراءات المضادة
للثورات. كما أكد لوسيان باي L.Pye في بحثه »جذور العصيان وبداية حركات التحرر « أن هدف بحثه هو تزو يد الحكومات بنصيحة صادقة تتعلق بكيفية التعامل مع المتمردين، والتي لخصها في الامتناع عن تقد أي تنازلات للثوار تحت أي ظرف من الظروف وأن على الحكومات أن تدعم شبكات التجسس الخاصة بها وتحول دون تسرب المعلومات وإذا انتقلنا إلى الإتحاد السوفيتي لنطل على موقف البحث السوسيولوجي
من قضايا الإنسان المعاصر-سواء داخل الاتحاد السوفيتي أو خارجه-فيمكننا
ملاحظة ما يلي:
1- إن قسطا لا بأس به من المنتج السوسيولوجي السوفيتي موجه نحو كشف مآسي وتناقضات اﻟﻤﺠتمع الرأسمالي على وجه العموم واﻟﻤﺠتمع الأمريكي تخصيصا.
2- وإن الباحثين السوفيت في علم الاجتماع يدرسون-بلا خرف ولا حرج-كثيرا من قضايا اﻟﻤﺠتمعات النامية سواء ما يتعلق بدراسة تخلفها وأسبابه ودور الرأسمالية والاستعمار كأعلى مراحلها في أحداث هذا التخلف أو ما يتعلق بقضايا التنمية بصفة عامة.
3-وإذا كان الدور النقدي للعلم يتجلى بوضوح من خلال النقطتين السابقتين فهو يزداد فتورا ووهنا إزاء المواطن السوفيتي، بشكل يجعله أقرب إلى المحافظة لأن انتقاداتهم تكاد لا تتعدى التكتيك دون تطاول على الاستراتيجيات العامة إذا جاز لي ا لتعبير. ومعنى هذا ازدواجية وظائف العلم التي تتراوح بين الراديكالية-بالنسبة لقضايا الإنسان خارج الإتحاد السوفيتي-و التبرير والمحافظة بالنسبة للإنسان داخل الإتحاد السوفيتي. فهم أكثر التزاما بتوجيهات الحزب وأيديولوجيته العامة. وعند هذه النقطة الحساسة قد يحلو للبعض القول إن الالتزام بالإيديولوجية الرسمية قد يعني قناعة علمية وفكرية بها.