(27)
الشخصية السورة: إن الحل الأمثل للصراع بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان هو التوفيق بينهما، بحيث يقوم الإنسان بإشباع حاجاته البدنية في الحدود التي أباحها الشرع، ولقوم في الوقت نفسه بإشباع حاجاته الروحية. ومثل هذا التوفيق بين حاجات البدن وحاجات الروح يصبح أمراً ممكناً إذا التزم الإنسان في حياته بالتوسط و- الاعتدال ، وتجنب الإسراف والتطرف سواء في إشباع دوافعه البدنية أو الروحية. فليس في الإسلام رهبانية تقاوم إشباع الدوافع البدنية وتعمل على كبتها (38). كما ليس في الإسلام إباحة مطلقة تعمل على الإشباع التام للدوافع البدنية دون ضبط وتحكم، وإنما ينادي الإسلام بالتوفيق بين دوافع كل من البدن والروح، واتباع طريق وسط يحقق التوازن رين الجانبين المادي والروحي في الإنسان. وفي هذا المعنى يقول القرآن الكريم: " وابتغ في آتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا " (29). ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام في هذا المعنى أيضا
إن الرهبانية لم تكتب علينا " رواه أحمد. وعن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أخبروا كأنهم تقالوها فقالوا: وأين نحن من النبي صلى الله عليه وسلم ، قد غفر له ما تقدم من ذنب وما تأخر، فقال أحدهم : أما أنا فإني أصاب الليل أبداً. وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولى أفطر. وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبداً فجاء رسول الله r فقال " أنتم الذين قلتم كذا وكذا. أما والله انى لأخشاكم لته وأتقاكم اله لكني أصوم وأفطر وأصاب وأرقد وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني رواه الشيخان والنسائي. وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال لي النبي rr أخبر أنك تقوم الليل وتصوم النهار. قلت: إني أفعل ذلك قال: فإنك إذا فعلت ذلك هجمت عينك ونفهت نفسك وإن لنفسك عليك حقا ولأهلك حقا فصم وأفطرا وقم ونم (30) رواه الشيخان. وحينما يتحقق التوازن بين البدن والروح تتحقق ذاتية الإنسان في صورتها الكاملة السوية، والتي تمثلت في شخصية النبي صلوات الله عليه وسلامه- التي توازنت فيها القوة الروحية الشفافة، والحيوية الجسمية الفياضة، فكان يعبد ربه حق عبادته في صفاء وخشوع تامين، كما كان يعيش حياته البشرية مشبعا لدوافعه البدنية في الحدود التي رسمها الشرع. ولذلك فهو يمثل الإنسان الكامل، والشخصية السوية النموذجية الكاملة التي توازنت فيها جميع القوى الإنسانية البدنية منها والروحية. وفي الحديث الشريف: "حبب إلى من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة"، روإه النسائي وأحمد والحاكم. إن الشخصية السوية في الإسلام إذن، هي الشخصية التي يتوازن فيها البدن والروح ، وتشبع فيها حاجات كل منهما. إن الشخصية السوية هي التي تعني بالبدن وصحته وقوته، وتشبع حاجاته في الحدود التي رسمها الشرع، والتي تتمسك في نفس الوقت بالإيمان بالله، وتؤدي العبادات، وتقوم بكل ما يرضي الله تعالى، وتتجنب كل ما يغضبه. فالشخص الذي ينساق وراء أهوائه وشهواته شخص غير سوي. وكذلك فإن الشخص الذي يكبت حاجاته البدنية، ويقهر جسمه ويضعفه بالرهبانية المفرطة والتقشف الشديد، وينزع إلى إشباع حاجاته وأشواقه الروحية فقط، هو أيضا شخص غير سوي وذلك لأن كلا من هذين الاتجاهين المتطرفين يخالف الطبيعة الإنسانية، ويعارض فطرتها. وحينما يتحقق التوازن بين الجانبين المادي والروحي في الإنسان تتحقق ذاتية الإنسان في صورنها الكاملة السوية، والتي ينعم فيها الإنسان بكل من الصحة البدنية والنفسية، ويشعر فيها الإنسان بالأمن النفسي والطمأنينة والسعادة. والتوازن وشخصية الإنسان بين البدن والروح ليس إلا مثالا للتوازن الموجود في الكون بأكمله. فقد خلق الله سبحانه وتعالى كبر شيء بمقدار وميزان. والأرض، مددناها وألقينا فيها رواسي وأنبتنا فيها من كل شيء موزون " (31!. وكل شيء عنده بمقدار " (33) 0
" إئا كل شيء. خلقناه بقدر " (33
" وخلق كل شئ فقدره تقديرا " (34).
منهج الإسلام في تحقيق الصحة النفسية:
يتبع الإسلام في تربيته للإنسان منهجا تربويا هادفاً يحقق التوازن بين الجانبين الروحي والمادي في شخصية الإنسان، مما يؤدي ، الى تكوين الشخصية السرية التي تتمتع بالصحة النفسية. ولما كان معظم الناس يميلون إلى الانشغال بتحصيل السعادة العاجلة في هذه الحياة الدنيا، ويغفلون العمال لتحصيل السعادة الآجلة في الحياة الآخرة، كان الإنسان في حاجة إلى منهج تربوي خاص يتضمن أسلوبين من التربية:-
الأسلوب الأو ل هو تقوية الجانب الروحي في الإنسان عن طريق الإيمان بالله وتقواه، وأداء العبادات المختلفة .
والأسلوب الثاني هو السيطرة على الجانب البدني في الإنسان كما يتمثل ذلك في توجيهات الإسلام الخاصة بالسيطرة على الدوافع والانفعالات والتحكم في أهواء النفس.
اولا- أسلوب تقوية الجانب الروحي في الإنسان:
ا- الإيمان بالله : يدعو الإسلام إلى الإيمان بالله وتوحيده وعبادته. ويؤدي الإيمان بالله إلى تحرر الإنسان من الخوف من الأشياء التي يخاف منها معظم الناس. فالمؤمن الصادق الإيمان لا يخاف من الفقر أو المرض أو مصائب الدهر أو الموت أو الناس. فهو يعلم أن رزقه بيد الله تعالى وانه لن يصيبه الأ ما هو مقدر له. وفي السماء، رزقكم وما توعدون " " (3) " كل نفس ذائقة الموت... " (36). (ما أصاب من مصيبة ني الأرض ولا في أنفسكم الا في كتاب من قبل أن نبرأها إن في ذلك على الله يسير " (37). وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " كنت خلف النبي r فقال: يا غلام إني أعلمك كلمات احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك. إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله وأعلم أن الأمة لو أجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف " رواه الترمذي.
2- التقوى:
وتصاحب الإيمان الصادق بالله تقوى الله. والتقوى هي أن يقي الإنسان نفسه من غضب الله وعذابه بالابتعاد عن
ارتكاب المعاصي والالتزام بمنهج الله تعالى، فيفعل ما أمره الله تعالى به، ويبتعد عما نهاه عنه. ويتضمن مفهوم التقوى أن يتوخى الإنسان دائما في أفعاله الحق والعدل والأمانة والصدق، وأن يعامل الناس بالحسنى، ويتجنب العدوان والظلم. ويتضمن مفهوم التقوى كذلك،) ن يؤدي الإنسان كل ما يوكل إليه من أعمال على أحسن وجه، لأنه دائم التوجه إلى الله تعالى في كل ما يقوم به من أعمال ابتغاء مرضاته وثوابه. وهذا يدفع الإنسان دائما إلى تحسين ذاته، وتنمية قدراته ومعلوماته ليؤدي عمله دائما على أحسن وجه. إن التقوى بهذا المعنى تصبح طاقة موجهة للإنسان نحو السلوك الأفضل والأحسن ونحو نمو الذات ورقيها، وتجنب السلوك السيئ والمنحرف والشاذ . فالتقوى إذن من العوامل الرئيسية في نضوج الشخصية وتكاملها واتزانها، وفي بلوغ الكمال الإنساني، وتحقيق السعادة والصحة النفسية .
3- العبادات:
إن القيام بالعبادات المختلفة من صلاة وصيام وزكاة وحج إنما يعمل على تربية شخصية الإنسان وتزكية نفسه، وتحليه بكثير من الخصال المفيدة التي تعينه على تحمل أعباء الحياة، والتي تساعد على تكوين الشخصية السوية التي تتمتع بالصحة النفسية. فالقيام بهذه العبادات المختلفة تعلم الإنسان الصبر وتحمل المشاق، ومجاهدة النفس والتحكم في أهوائها، وقوة الارادة وصلابة العزيمة، وحب الناس والإحسان إليهم، وتنمي فيه روح التعاون والتكافل ا لاجتماعي.
ثانيأ- أسلوب ا (سيطرة على الجانب البدني في الإنسان: ا- السيطرة على الدوافع: يدعو الإسلام إلى السيطرة على الدوافع والتحكم فيها. ولا يدعو الإسلام إلى كبت الدوافع الفطرية، كما أشرنا إلى ذلك من قبل ة، و إنما يدعو إلى تنظيم إشباعها والتحكم فيها، وتوجيهها توجيهاً سليما تراعى فيه مصلحة الفرد والجماعة. ويدعو القرآن الكريم والسنة الشريفة إلى نوعين من التنظيم في إشباع الدوافع الفطرية.
التنظيم الأول هو إشباعها عن الطريق الحلال المسموح به شرعاً ومن أمثلة هذأ التنظيم إباحة إشباع الدافع الجنسي عن طريق الزواج فقط، وتحريم الزنا.
"و ليستعف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضلها (38).
وفي الحديث الشريف: "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج. ومن لم يستطع فعله " بالصوم فإنه له وجاء " رواه الشيخان.
والتنظيم الثاني هو عدم الإسراف في إشباعها لما في ذلك من إضرار بالصحة البدنية والنفسية. قال تعالى: " يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين " (39). وفي الحديث الشريف: " كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا في غير سرف ولا مخيلة! ". رواه البخاري. ولا يعنى القرآن الكريم بتوجيه الإنسان إلى السيطرة علي دوافعه الفسيولوجية فقط، وانما يعنى القرآن الكريم كذلك بتوجيهه إلى السيطرة على دوافعه النفسية أيضا. ففي كثير من المواضع يحث القرآن الكريم على السيطرة على دافع العدوان ودافع التملك ، وأهواء النفس وشهواتها المختلفة سواء كانت بدنية أو نفسية. وقام الرسول عليه الصلاة والسلام أيضآ بتوجيه الناس إلى التحكم في دوافعهم وشهواتهم. قال عليه الصلاة والسلام: " لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعا لما- جئت به رواه البخاري، وقال عليه الصلاة والسلام أيضا: " حبط الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات ". ر وان مسلم.
2- السيطرة على الانفعالات:
ويدعو القرآن الكريم الناس إلى السيطرة على انفعالاتهم والتحكم فيها. وقد سبق القرآن الكريم لا ذلك العلوم الطبية والنفسية الحديثة التي بينت أن اضطراب الحياة الانفعالية للإنسان من الأسباب الهامة في نشوء كثير من أعراض الأمراض البدنية. ومن أمثلة ما جاء في القرآن الكريم من دعوة إلى السيطرة على الانفعالات نذكر الآيات التالية التي تدعو إلى السيطرة على انفعال الغضب.
" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السموات والأرض أعدت للمتقين الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين" فما أوتيتم من شئ فمتاع الحياة الدنيا ولا عند الله خير وأبقى للذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون والذين بجتبنون كبائر الإثم والفواحش وإذا ما غضبوا هم يغفرون " . " ولمن صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور " فاصفح الصفح الجميل " وقد دعا الرسول r الناس أيضا إلى التغلب علي انفعال الغضب قال عليه الصلاة والسلام:، ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب "، رواه الشيخان. وقال rأيضأ: (الأ إن الغضب جمرة توقد في جوف ابن آدم، ألا ترون إلى حمرة عينيه وانتفاخ أوداجه. فإذا وجد أحدكم شيئا من ذلك فالأرض الأرض... ألا إن خير الرجال من كان بطيء ا الغضب سريع الرضى، وفر الرجال من كان سريع الغضب بطيء الرضى " رواه الترمذي والبخاري وأحمد. وجاء رجل إلى رسول الله r "يارسول الله : أوصني قال : لا تغضب فكرر السؤال ثلاث مرات وكرر الرسول الجواب نفسه " رواه البخاري. ويدعو ا القرآن الكريم والسنة الشريفة إلى السيطرة على جميع الانفعالات الأخرى والتحكم فيها. ففي القرآن الكريم آيات كثيرة تدعو إلى السيطرة على انفعالات الحزن والفرح والحب والكراهية وتنهى عن الزهو ، والكبرياء والتعالي على الناس. كما نجد أيضا في الحديث الشريف دعوة إلى السيطرة على كثير من هذه الانفعالات. توازن الشخصية والصحة النفسية بهذين الأسلوبين ، أسلوب تقوية الجانب الروحي في الإنسان عن طريق الإيمان بالله وتوحيده وعبادته، وأسلوب السيطرة على الجانب البدني في الإنسان عن طر يق التحكم في الدوافع والأهواء والشهوات والانفعالات، يستطيع الإنسان أن يحقق التوازن بين الجانبين الروحي والبدني في شخصيته، مما يؤدي إلى شعوره بالأمن والطمأنينة، ويحقق له الصحة النفسية والسعادة في الدنيا والآخرة.